تخطى إلى المحتوى

مع الشاعر سعد البواردي في ذراته .. مجلة الإذاعة

    كم أنشودة صنعت أملاً.. بهذه العبارة الجميلة قدم لنا الشاعر سعد البواردي أناشيده في ديوانه الجديد .. ذرات في الأفق !!

    وأي شيء أجمل من أن تمتلئ النفس بالأمل و الرجاء .. أمل في حياة إنسانية سعيدة .. و مستقبل أسعد !

    وأنا بهذه المقالة لن أقدم هذا الشاعر لقراء مجلة الإذاعة .. فهو من شعراء الجيل الجديد المعروفين .. الذين بدأوا ينطلقون بإنتاجهم من أفاقنا المحدودة إلى أفاق بعيده ..!!

    كما أني لن أحاول أن أنقد هذا الديوان لأن نقد الأثر الأدبي يقتضي جهداً خاصاً لإخضاع هذا الأثر لمبادئ النقد .. ويقتضي أيضاً معرفة خاصة لحياة الشاعر عن كثب ..!!

    وإنما قصدت بهذه المقالة أن ألقي الأضواء على إنتاج الشاعر لإشراك القارئ بالاستمتاع بمعطيات شعره في ديوانه الجديد ..

    فالديوان – كما يقول المؤلف – بضم مشاعر انطلقت متفاعله مع الأحداث الكثيرة التي يجتازها تاريخنا مصوره تارة .. معبره تارة .. و مثيره تارة أخرى..

    ولعل من أبرز سمات شعر البواردي أنه يصدر عن شاعريه متفجرة عنيفة. وعن وعي و حساسيه مفرطه تجاه مشاكل الحياة الاجتماعية و السياسية ..

    وإذا كان الشعراء يهربون – إذا نما عبروا عن مشاعرهم و أحاسيسهم – إلى قوقعه الذات أو غيوم الرومانسية الكئيبة. أو كهوف الرمزية إذا شاؤوا .. فإن البواردي بدوره قد لجا إلى سجف الرمزية أحياناً .. أو تشبث بأذيالها أحياناً أخرى .. لا حباً أو تأثراً بها .. وإنما كما يقال لا بد مما ليس منه بد.! فالشعراء الرمزيون لا يعربون عما يجول في عقلهم الباطن بالكلمة الصريحة .. بل بالصورة أو اللفظة الغامضة أو المعنى القائم. و كذلك فعل هذا الشاعر فقد مزج تجاربه الشعرية عموماً بشطحات من الرمزية كما فعل في قصيدته .. غزو الفضاء فهو يقول فيها على لسان المريخ.

    أنظري ..

    أشباح أرواح الشقاء.. العفاريت أتت للثأر تطلب الثعابين. و تمساح الردي صانع الأنياب و التنين أقبل

    البراكين و إعصاري الذي نام منذ الألف

    للأذيال اسبل.!!

    جحفل الجرزان ..

    الحمي التي أن منها الضخر ..

    و الغاشي و قرطل

    و ملوك الشر. دوني ودما و ابوالدهما. وحاطوم و نهكل ساحه المريخ قد جنت به

    أنظري يا أختاه .. ماذا سوف يفعل؟؟

    يا لبادي الشر كم يلقي الجزاء

    كصنيع الشر. و البادي أخطل..!!

    فالشاعر قد شحن هذه القصيدة بكلمات غابيه قد لا تروق لبعض الأذواق .. و يستعصي إدراك ما وراءها على إفهام الكثيرين. وهي ألفاظ لا شك أن مصدرها العقل الباطن و تدل على معنى خفي الشعور في العقل الباطن غير مدلولها الظاهر..!!

    وقد يسأل القارئ ما هو هذا المعنى الخفي ..؟؟ و ما هو قصد الشاعر من شحن هذه الكلمات في هذه القصدية؟

    مما لا شك فيه أن الشاعر عندما أنفعل بفكره غزو الفضاء .. تمثلت لعقله الباطن فكره فناء العالم أو هول الكارثة فأنسابت النابية على لسانه بدون وعي. فهي إذن ترمز إلى فناء العالم أو هول الكارثة. واحتدام الشر.!

    وإذا كان الشاعر قد أستعمل الرمزية اللفظية للتعبير عما يجول في عقله الباطن من مشاعر و أحاسيس فإنه لجا أيضاً إلى الرمزية الموضوعية .. فهو في مقطوعته ضفدع المجري الراكد و شريط الصخرة و القيثارة و الزبد و سوفانا وغيرها يرمز في كل منها إلى فكره معينه فقد جعل الضفدع مثلاً رمزاً لمن يجتر أحلامه متخاذلاً .. و الضفدع بالطبع هو الشعوب النائمة المغلوبة على أمرها بالاستعمار.!

    ولنقرأ جزئاً من هذه القصيدة الساخرة..!!

    لمن تنادي أيها الضفدع نقنقت للماء فما يسمع وفر عليك الصوت ما صرخة لمن بكي تجدي ولا تنفع الأرض لا تهوى سوى من له باس .. و للشاكين لا تنزع .. إلخ

    أما مقطوعه رمزية الزبد فهي مقطوعة رمزية أيضاً و مطلعها :

    يا ماء كم يطفو الزبد !!

    ويحي وويحك للأبد!!

    ويح الحقيقة كيف يقهرها غثاء من زبد !!

    وهي مقطوعة جمعت بين سمو الموضوع و جمال الأسلوب و خفه الجرس و ابتكار المعاني كقولة : شقيت حياته كما في النائمين استاء خد نفس يعنفه السبات وأخر يشقى بكبد!!

    وأحسب أن من أجمل مقطوعاته المعرفة في الرمزية هي مقطوعة سوفانا التي يقول فيها ..

    سوفانا سحابة و قطرها الحب !

    صبية وكلها قلب .. وديعه أسلمها الركب…

    إلى الزمان !!

    في فمها أنشده .. أنشده الأمان ..!!

    وهي تجربة شعرية ظلالها و أصداؤها خياليه .. يتخيل فيها الشاعر شيئاً جميلاً قد وجد .. و حلماً قد ولد له عينان بطهر السماء..!

    و أظن أن الشاعر يعني بذلك شجرة الحرية ..!

    و البواردي من الشعراء الذين يتأثرون بمظاهر البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها .. فأغلب شعره يصور أمال الناس و ألمهم.و كما أنه ينفعل بأحداث الحياة أينما وجدت و كثيراً ما تأتي تجربته الشعرية ذات نزعه إنسانيه عالمية .. فديوانه حافل بقصائد يصور فيها كفاح الشعوب المناضلة ضد الاستعمار ..!! لاسترجاع حقها في الحياة الحرة الكريمة و التحرر من قبضه الظلم و الاستبداد ..!

    وللشاعر قصيده باسم (أغادير) أحسب أنها من أقوى قصائد الديوان من حيث الصياغة و الأسلوب وابتكار المعاني .. وفي هذه القصيدة قوله .. مهلاً أغادير لا تاس لجانحه قد ضمخت بعبير الصبر بلواك مهلاً أغاديرها اهتزت و ما ارتجفت أرض لزلزالها المجنون .. لولاك الثائر الخطب لا يرمي سوى بطل يخشاه والدهر مكن الثائر الشاكي ومنها – الزهر يبدو جميلاً ثم تصفعه و يولد الزهر الأخرى حين تلمسه يد الربيع فيزهو فوق مغتال و الحر يصرعه باغ بسكوته و يهزأ الحر من باغ .. وأفال إلى أن يقول مخاطباً أغادير :

    قولي لذا الخطب أن راقته عودته أقدم .. و هز بكل الخطب أفلاكي فناطح الصخر مقبور بصخرته الصخب إن جاء يوماً من ضحاياك حقاً أن الواردي شاعر القوة .. و العنفوان ..!! فبالرغم من أن موضوع هذه القصيدة مأساة كئيبة تستوجب الرثاء و الحزن و الألم .. إلا أنه قد صاغ هذه التجربة الشعرية بروح عنيدة جباره تهزأ بالأقدار و تسخر من الأخطار .. وتنادي بإرادة الحياة ..!

    فشعره غالباً مملوء نغماً قوياً .. كأنه شلال يتحدر من ذرى الفكر إلى أعماق النفوس .. ذلك لإن انفعالاته النفسية صادقة و لديه قدرة فائقة على التعبير عن هذا الانفعال بأسلوب و موسيقى تنفجر قوة و عنفواناً .. ومن أمثله ذلك قصيدته التي بعنوان حماقه الشعراء و زفرات ففي الأولى يقول:

    أنا شاعر و الشعر خاطره

    تجنح كل أفقي !!

    أنا قد ولدت بصرخة

    مزقت فيها صك رقي

    هل أنها حمم الحماقة

    ترن من بركان حلقي

    إلى أن يقول:

    فسلو عن الشعر الشعور

    بأي حكم سوف يلقى

    على أنه لهب الحياة

    فلا يقر دجى و يبقى

    أم أنه نفس يغرد

    للهوى في غير حمق ..!!

    قولوا على أي يجبكم

    صارخاً .. وبأي شق

    ما الشعر شعراً إن غفت

    لسماعه أجفان أفقي ..!!

    و لنسمعه في القصيدة الثانية زفرات يتحدث عن نفسه قائلاً:

    أنا حين أخطر في طريقي

    وأخط آهاتي بريقي

    أجد الكفاح و سيله

    للكشف عن حزني و ضيقي

    أنا حين أبحث عن نصيبي

    بين الكوارث و الخطوب

    فلأنني أجد الحياة

    يزينها شوك الدروب

    أنا حين أهتف بالعذاب

    على دمي .. وعلى شبابي

    فلإن لي حباً … وخير

    بعيده تدعو ركابي

    إلى أن يقول:

    أنا حين أرخصها الموادي

    جذلاً ينازلها فؤادي

    فلإن لي حباً .. وخير

    الحب ما يحمي بلادي

    أنا حين أغضب في قصيدتي

    وأصيح من قلمي و جيدي

    فمن السطور الغاضبات

    أشيد للدنيا نشيدي

    فمن يقرأ هذه القصيدة يحس بأن للشاعر روحاً..

    تكره الضعف و تتعشق البحث عن النصيب بين الكوارث و تجد الكفاح خير وسيله للكشف عن الحزن و الضيق .. أليس هو القائل أن كل ضعف تلعن الدنيا خطاه. و تمله ..!!

    هذا .. وإذا كان شعر الصديق البواردي قد أتسم بالرمزية فإن شعره لا يخلو من التأملات و الخطرات الفكرية كما جاء في قصيدته (البحر و الحكمة الصغيرة) وهي تأملات في الحياة تدعو للإعجاب..!!

    وبعد .. أن من حق الصديق البورادي أن نهنئه على ديوانه الجديد وفي رأيي أن ديوانه الجديد يضم إنتاجاً أدبياً يدل على شاعريه متدفقه جديرة بالاهتمام من قبل .. لأنه إنتاج عملاق يستطيع أن يشق طريقه إلى ما وراء الحدود ..!!

    وأخيراً .. إذا كان لابد لي من أن أنتقد .. فإني ألفت نظر الصديق البواردي إلى بعض العيوب الشكلية التي جاءت في كثير من قصائد الديوان .. وهي إكثاره من قصر الألف الممدودة في القصيدة الواحدة .. وهي هنات لا تقلل من أهمية شعره .. وإنما ذكرتها طمعاً في كمال إنتاجه في المستقبل ..