دراسة عصفور من دنيا عبقر
ولهذا فسوف نعتمد على العمل ذاته في بيان خط سير الشاعر دون النظر إلى التواريخ المثبتة في ذيل القصائد.
ومقبل العيسى – كما تشير بذلك قصائده – شاعر متمرد قلق كغالبية الشعراء المبدعين لكنه لا يصدر في تمرده و قلقه عن نظرية و جودية, و إنما عن نظرة أخلاقية انتقادية فظاهرة اجتماعية قضمت طموحه بأسنانها الشرهة, رغم طوافه في أرجاء بلاده و خارجها (1).
وقد ساعدته جولاته على معايشه مجتمعة على المستويين : الإقليمي و القومى, ثم رفضه على المستوى الأخلاقي المحض. فليس في الدنيا غير الضغينة و الحقد و التحزب و التثعلب و الزيف؛ و بالتالي لا يرجى منها غير الشقاء و العسف و الظلم و الظلام و الألم و الكآبة و التجهم و الشوك و الجراح و الدموع و الشرور و القيود و السراب و الظمأ و الغربة و الأسى و الأسر, و هذه كلها مفردات تتردد كثيراً في شعره. و ليس معنى رفضه للمجتمع الشرقي، قبوله للمجتمع الغربي, فهو ينعى عليه (غياب الزوج) في قصيدته (غربة الروح) وهى قصيدة عذبة من قصائد الحنين إلى الوطن ..
إلى (رحاب الوحى) و (صفو الربوع) و (المجد الرفيع) أهدتها إليه غربته (المكانية). و هو رفضه للمجتمعين : القومي و العالمي يستمد سنده من التاريخ الروحي لبلاده العربية ٠ هذه البلاد التى يعشقها رغم مكدرات صفوها .. لا يعشق حاضرها .. واقعها ٠ و إنما ماضيها و مستقبلها .. استنادا إلى ماضيها يؤمن بمستقبلها :
قومي .. هم العرب من دانت لهم دول
من زينوا جبهة الدنيا. بالسلام
أن قلت : جود. فمن للجود غيرهم
أو فلت : صيد .. فمن هم غير أقوامي (2)
ولقد جاء رفضه لمجتمعه,، نتيجة لضيقه بمناخ غير صحي، لم يستطع أن عينه على تحقيق أحلامه، بل جابهما (بقسوة لا تحد) (3) منذ طفولته رغم فؤاده الشاعري و حسه المرهف. و هذا الرفض قد يقود صاحبه إلى أحد طريقين:
طريق اللامبالاة, أوطريق الزهد, و يبدو أن شاعرنا قد تأمل الطريقين و راود
(١) يقول الغلاف الأخير أنه ولد في عنيزة عام 1349 هـ، و قضى سنواته الأولى متنقلاً مع أسرته بين (مكة و المدينة) و (ينبع). و عند حصوله على شهادة مدرسة تجهيز البعثات٠ أبتعث إلى (القاهرة) عام 1950 م ثم التحق بالسلك الدبلوماسي بعد حصوله على ليسانس الحقوق.
(٢) قصيدة أنا محيوك
(٣) قصيدة : طريق الحياة
نفسه لسلوك أحدهما ٠ ففي قصيدته (دعوة) يدعوه (عصفور) من دنيا عبقر أخاله (شيطان الشعر) إلى ترك الهموم والانغماس في اللهو .. بل و ألمجون :
فالأرض تدور من أزل بوجودي حتماً .. و بدوني أنه لا يقول لنا أنه أستجاب لهذه الدعوة. و حسناً فعل فقد بعد بذلك عن (المباشرة) و لجأ إلى الصور الموحية الخبيرة بإحساسات الشعراء الذين يذوبون عشقاً للعالم :
عصفور لم يعرف يوم طمعاً لشقاء .. ملعون
يحيا بغرام للدنيا بحرارة شوق .. وجنون !
غير أن صوت نزار يبدو واضحاً في هذه الدعوة : موسيقاه و صورة بل وعشقه للتشبيه المباشر و مفرداته، و هكذا لم يقف حبه لنزار عند حد اختيار عنوان لديوانه شبيها بأحد عناوين نزار :
عصفور .. من دنيا عبقر ينقر شباكي. بفتون
حلو الأعطاف.. مفاتنه في بسمة ثغر و عيون
عيناه كيفروز ٠٠أخضر و القد كلحن موزون
ويأخذ عليه الناقد السعودي علوي الصافي تشبيه عيني العصفور بالفيروز الأخضر (فالمعروف أن الفيروز من الجماد. و تشبيه العين بالجماد شيء تعافه النفس .. و يرفضه ذوق الفنان الشاعر (١) و نحن لم نشعر من جانبنا بهذا النفور لما في الفيروز من حياة مشعة متحركة في محجري هذا العصفور الرمز بعكس موقفنا من تشبي نزار – في كثير من قصائده للنهود و السيقان بالرخام، فالرخام يوحي إلينا بالبرودة و الجمود، و جسد المرأة دافئ حي. العيب إذن ليس في الجماد و إنما في اختيار الشاعر لصوره و تشبيهاته ٠ فما نأخذه على مقبل في هذه القصيدة مثلاً تشبيهه العصفور بالعصفور :
عصفوري الأشقر منطقه أحلى من نغم الحسون
أنه لم يزد على أن يقول أن منطق (العصفور) أحلى من نغم (العصفور) و لا نعتقد أنه قصد المفاضلة بين (المنطق) أو (النغم) ليفضل (المنطق) و إنما لأن العصفور و (الحسون) طائرين رقيقين صغيرين ينتميان إلى فصيلة واحدة، و العصفور في هذه القصيدة لا يفضله طائر آخر و نغمه منطقه و منطقه نغمه.
ولقد تأثر شاعرنا بأساليب شعرية عديدة إلى أن خرج في النهاية بصوته المتفرد الذي نأمل أن يحاول الغناء به وحده. و الشاعر أن الأثيران عنده هما :
الشابي و نزار. و لهذا فأننا نعتبر ثورته على نزار فني قصيدته (على هامش دفتر النكسة. عتاب عاشق خرج عن طوره لهول الفاجعة
فالسر في المأساة. ليس ما تقول
السر في السكوت ..
ولوثة الضمير. . والمقول.
فأين كنت قبل أن تموت؟ !
من قبل أن تذوب في عروقنا ..
سموم عنكبوت؟!
مجله اليمامة العدد 243 الصادر في 4 صفر 1393 هـ 6 مارس 1973 م
دراسة
عصفور من دنيا عبقر
وهذه الأبيات المفعمة بالصدق؛ أبيات نادرة في تلك القصيدة فهو أقدر على البناء العمودي من البناه التفعيلي، و يبدو أنه لم يؤهل نفسياً و فنياً لقبول هذا الشعر الجديد بعد. و أن الذي الجاه إلى مجاراته هو معارضته لقصيدة نزار.
فالقصيدة تغص بالتراكمات النثرية المنطقية البعيدة عن المنغمات الشعرية التأملية.
وإذا كان الشاعر لم يصرح باستجابته لدعوة (عصفور وأدى عبقر) أو شيطانه الملهم فهو لم يستهجنها بل على العكس نراه يتعاطف معها. بيد أنه يسارع في قصيدة (نجوى للقلب) إلى الدعوة للزهد :
أن أدبرت عني فلست بنادم صفو الحياة لراغب عنقاء !
ما ارتجى منها إذا هي أدبرت ما دام في طبع الحياة فناء
وهذه القصيدة مناجاة عدبة للنفس تذكرنا بتأملات الشابي من زهد أبي العتاهية، و إن جاء البيت الأخير من قبيل الحكم الخالصة التي تنفصل عن التجربة ربما لتوليد خاتمة ذات نغمه صاخبة، و أن كان المعنى الذي تضمنه من المعاني المطلقة التي يسعى إليها الشاعر و تعبر عن أزمته أصدق تعبير :
فالعدل يا للعدل من أنشودة أرض تمنت عزفها و سماء
غير أن تحبيذ اللهو أحياناً و الجنوح إلى الزهد أحياناً، لم يمعصماه من غربته الروحية التي جعلته يعيش في الدنيا غريباً كصالح في ثمود (1)
ولقد تطور هذا الإحساس عنده حتى بعد الوعظ الأخلاقي وانتهى إلى التأمل الشاعري.
في البداية حاول أن يقلد شعراء العربية الكبار في قلقهم الوجودي الخصب
كما فتى قصيدة (ظلمة الغاب) التي أستهلها بقوله :
أنا أحيا. مكبلاً بقيودي بكياني، بطينتي, ووجودي !
أتدنى بفطرتي. . غير أني لي روح تهيم في اللاحدود
قدر جاء بي إلى الأرض قسراً لا اختيارا و شد فيها قيودي
أسلمتني إلى الحياة، إلى القيد برغمي .. غريزة في الجدود !
لكنه سرعان ما ينسي هذا التأثر بأبي العلاء و أبى ماضي، عائداً إلى نظرته
الأخلاقية المحدودة و نهاياته الصاخبة المعهودة :
جوهر وأحد مدى الدهر يبقى هو معنى البقاء رب الوجود
(١) قصيدة : ظلمة الغاب !!
ما أحسبه أن شطحات أبى العلاء ٠ أو شك أبي ماضي يوائمان هذا الإيمان
العميق و لقد ساقته النظرة الأخلاقية – كما رأينا – إلى النبرة الوعظية التى تحيل القصيدة إلى أبيات متفرقه من الحكم، و إذا أردنا مثلاً أخيراً فليكن من قصيدته (حواء) التي بداها بتساؤلات باسمه عما يعجبه في الغيد ثم أنهاها بقوله :
فالحسن في حواء مثل قبح إن لم قانعة صبورة
السر في الأخلاق و السجايا أما الرؤى مهما تكون مغموره
ورغم أن قصيدته : (تحية لتونس) التي ألقيت في المهرجان الذي أقيم بتونس عام 1965 بمناسبة ذكرى وفاة أبي القاسم الشابي، تغص بما يغص به أمثالها من قصائد (المناسبات) من تقرير و خطابة ؛ إلا أنه بثها شكواه لأبي القاسم من غربته في أبيات حزينه مزج بها تجربته مع الحياة بتجربة الشابي، و إن كان الشابي الآن نائم عنها في غفوة، و هو مازال حائراً لم (ينعم) و لأن الشابي قد صاغ الحاله من الألم، حتى أصبحت ملء سمع الدهر في كل فم فقد أخذ شاعرنا يستعذب الألم لا استعذابا مرضياً، و إنما استعذاب من خير الحياة فهدته إلى أسرارها . أنه في قصيدة (لاتعجبى) يرجع بوح الشاعر بالأنغام الشجية، إلى أسره و غربته غائصاً في أعماق (الشاعر العبقري) الذي لا يساوم و لا يهادن ليرتقى به إلى مصاف الصديقين :
أنا رن أكن متجهما فلأنني في غربة، من دهري المتقلب
أختاه مد لي السراب يمينه فلطمتها, رغم الظمأ لم أشرب
تبت يدي إن لامست لي صبوة يمناي. أو قتل الظمأ لي مذهبي
لي من صفاتاً لمؤمنين شمائل لسوى طريق الحق لم تتعصب
لقد وجد الشاعر نفسه في هذه القصيدة ٠٠ و بهذه القصيدة فأنطلق يغني على أوتار الأسى للعدل و الحق و الحرية ٠ و لقد انتهى في قصيدته (الطائر الأسير) إلى الاعتماد على وحدة القصيدة لا وحدة البيت و إلى الجنوح إلى الرمز الشفيف لا التصريح المباشر كما هو الشأن مع قصيدة (دعوة) غير أنني لا أعرف سبباً لإصراره على أن يزاحم العمل بأشياء خارجة عنه وتعني بها تلك المقدمات النثرية لقصائده التي تتحدث عن المناسبة أو الفكرة الموحية.
أن هذه المقدمات لا تترك الشعر يتتقل من وجدان الشاعر إلى وجدان المتلقي بدون وسيط مخل .. أنها ـ في نظرنا ـ تقف سداً منيعاً أمام تحليقات المتلقي لتحد منه خياله أو تطمسه. و لقد قدم هذه القصيدة بقوله :
يروق لبعض الناس حبس البلبل في القفص لأنه يشدو بصوت جميل ولو أن هذا هو عالم تلك القصيدة لأغتنى عنه محفوظاتنا القديمة عن البلبل ذي الصوت الجميل و الذنب الطويل الذي حبسناه في قفص من ذهب (1) و لكنها في الحق قصيدة رمزيه رحبج تتخطى هذا العالم التعليمي الضيق.
ونراه يقدم قصيدة (لاتعجى) بإهداء جاء فيه : (إلى التي سألتني لماذا يتسم شعري بالكآبة). و قد أضر هذا الإهداء القصيدة – رغم عدم دخوله في نسيجها – لأنها تستمد روعتها من تعرضها للشاعر كمثال أو رمز أو معنى، و ليس كشخص معين بالذات. و لقد حرصنا على إبراز هذا المعني حينما تناولناها, و إلا لوقعنا مع شاعرنا في حرج شديد و هو يقرظ شعره و يمدد محاسنه الشخصية أنها في نظرنا قصيدة كتبها شاعر مجهول, تمس أزمة شاعرنا الخاصة، لكنها – ككل فن أصيل – تكسبها صفة العمومية و الشمول.
الرياض محمد محمود عبد الرازق
(1) قطعة مدرسية أعتقد أن جيلنا ما زال يذكرها :
قد كان عندي بلبل في قفص من ذهب