لقد لفت نظري .. ما طرحه توفيق الحكيم وهو يتحدث في كتابة (التعادلية) عن التعادل الذي كان قائماً في مطلع القرن التاسع عشر بين قوة العقل ومعطياته .. وقوة القلب أو الدين. وأن العقل والقلب قد اختل منذ توال انتصارات العلم العقلي .. واستمرار جمود الجانب الديني .. فالعلم الذي هو وليد العقل قد ضاعف قوته وجدد وسائله و وسع أفاقه، في حين أن الدين الذي هو وليد القلب بقي محصوراً في أفقه لم يكتشف منابع جديدة في أعماقه .. وهو في نظريته هذه يتحدث عن واقع العالم الغربي في عصر النهضة، وهو طرح يتفق مع الواقع الذي كان سائداً، في الغرب في مطلع القرن التاسع عشر .. ولكنه يحاول أن يوحي للقارئ بانطباق هذه النظرية أو هذا الطرح على الدين الإسلامي .. محاولة منه للتشكيك في معطيات الإيمان في الحياة الإنسانية في كل زمان ومكان ..!! وهو طرح قد ينطلي على عقلية المتلقي الذي لا يعرف الفرق بين العقيدة الكنسية, أي تعاليم الكنيسة التي كانت سائدة في الغرب في القرون الوسطى .. وبين تعاليم و قيم ومبادئ الدين الإسلامي الذي يدعو الناس للتفكير العقلي في أمور الحياة .. ودعوته للأخذ بالقوة المادية أي العلمية .. فإذا كان هناك تخلف أو قصور علمي لدى الشعوب الإسلامية نتيجة الجهل المتفشي ..
فهذا ليس سببه الإيمان القلبي .. وإنما سببه حتميات تاريخية معروفة !!
ولا أريد هنا أن أتطرق لأفكاره في التعادلية من حيث هي نظرية فلسفية جدلية .. ولكني أريد أن أتطرق لما ذكره الكاتب من عدم التعادل بين العقل والإيمان .. أو بين معطيات العلم ومعطيات الأديان السماوية .. لأن الأخيرة الهدف منها هو هداية الإنسان وتقوية قلبه ونفسه لعمل الخير .. ونبذ الشر، فالدين الإسلامي يدعو للقوة أي العلوم التطبيقية المفيدة للإنسان .. ولكن قيمة ومبادئه لا تتفق مع الانحلال الأخلاقي أو المعارف النظرية التي لا تتفق مع الإسلام والحياة الروحية ..!! فما يطرحه الكاتب يستشف منه القارئ الواعي محاولته للتشكيك في المعطيات الدينية .. في حياة الإنسان .. أي إن الدين الإسلامي يتعارض مع العلم .. وهنا مكمن الخبث في طرحه .. وطرح غيره من دعاة التشكيك المتأثرين بأفكار المستشرقين المعادين للإسلام ..!!
وهي مقولة تجد مع الأسف من يقتنع بها في العالم العربي والسبب هو واقع الإنجازات العلمية التي ظهرت في الغرب في القرن التاسع عشر يقابلها جهل وتخلف علمي لدى الشعوب الإسلامية لأسباب ليس لها علاقة بالمعطيات الروحية كما ذكرت، وإنما سببها الاستعمار الغربي الذي كان سائداً في هذه الشعوب ..!!
فالدول الإسلامية الرائدة قد أخذت بأسباب العلم المتاحة في ذلك الوقت .. ووحدت العلوم في صورها الذهبية أيضاً .. ولم يكن الدين الإسلامي محارباً للعلوم التطبيقية، كما أن الإنجازات العلمية التي تحققت في الغرب في القرن التاسع عشر لم تتحقق من لاشي .. بل هي مستمدة في الحقيقة من العلوم التي وجدت في الدول الإسلامية في عصورها الذهبية .. وهو ما يثبت عقلاً وحقيقة أن الدين الإسلامي لا يستنكر العلوم التجريبية .. بخلاف ما كان سائداً في الغرب في القرون الوسطى : وقتل أو إعدام العالم الغربي(جاليليو) من قبل رجال الكنيسة أكبر شاهد على تهافت دعاة التشكيك الذين يحاولون إيهام المتلقي بأن التعاليم الدينية الإسلامية كتعاليم الكنيسة السائدة في الغرب ..!!
إذا، التخلف العلمي في العالم الإسلامي في عصر الدول المتتابعة الذي نطلق عليه إجحافاً (عصر الانحطاط) ليس سببه في الواقع التعاليم الدينية الروحية الداعية لعمل الخير ومحاربة الشر في سلوكيات الإنسان .. ولكن السبب هو الجهل .. وتحكم حتميات تاريخية في حياة الأمم والشعوب السائدة البائدة ..!!
ولكن دعاة التشكيك، كما قلت، يحاولون استغلال ظاهرة التفوق العلمي في الغرب لترويج طروحاتهم الفكرية واللغوية والفلسفية المعادية للإسلام ..!! فهل نعي كمثقفين هذه الحقيقة ..؟؟ ونأخذ بأسباب القوة العلمية والمادية التي لا تتعارض مع القيم والمبادئ الحميدة الموجودة في تراثنا الإسلامي..؟!