أطلعت على كلمة في إحدى الصحف العربية مؤخراً لكاتب عربي.. يقول فيها بأن الحضارة العربية لم تتكون إلا بعد انتشار النقد الفلسفي عند العرب. وكان بين يدب وأنا أقرأ هذا الطرح الغريب..
كتاب نقد النثر لقدامه بن جعفر.. وهو من أدباء العصر العباسي الثاني.. ويذكر تاريخياً بأنه ألفه متأثراً بكتاب نقد النثر لأرسطو الإغريقي..!!
وهذا الكتاب قد حققه المرحوم (عبد الحميد أحمد العبادي) عام 1931 ميلادية.. وقد كتب له مقدمته أبرز أديب في ذلك الوقت.. هو الدكتور طه حسين –رحمه الله.. وقد لفت نظري قوله في هذه المقدمة.. بأن الأدب العربي في العصر العباسي كان متأثراً بالفكر الإغريقي.. أو الثقافة الهيلينية.. ويذهب إلى أبعد من ذلك فيدعي بأنه ليس هناك أصالة للثقافة العربية.. بل هي عاله على الثقافات العالمية التي سبقتها..!!
ومن الغريب أن هذا الكتاب كان مقرراً على طلبه السنة النهائية في المدارس الثانوية في ذلك الوقت..!! ولكن هذه الغرابة تنتفي إذا علمنا بأن المسؤول عن التعليم حينذاك.. هو المستشار الإنجليزي كرومر..!
كما أنه يقول في مقدمته.. بأن علم البيان العربي مستمد من الأفكار الإغريقية.. التي ترجمت إلى اللغة العربية في العصر العباسي الثاني.. وبأن أبرز علماء اللغة العربية والبيان.. ومن تكلم في البلاغة العربية.. هم من أصول غير عربية..!!
وهذه المقدمة قد كتبت وطبعت منذ أكثر من نصف قرن.. وأنت لا تدري ما الذي يتوخاه أو يقصده من هذه الدعاوي الواهية التي لا تستند إلا على تخرصات واستنتاجات لا يقبلها العقل.. إلا إذا كانت من قبيل إبراز العضلات.. والإدعاء بالمعرفة الجديد هاو الحديثة – طبعاً في ذلك الوقت – وأعتقد بأن التاريخ يعيد نفسه حالياً.. فما أكثر إبراز العضلات والادعاء بالمعرفة والثقافة في وقتنا الحاضر في جميع البلاد العربية..!!
فإذا كان هناك مؤلفات إغريقية قد ترجمت في العصر العباسي الثاني لأرسطو وأفلاطون وغيرهما. فهل معني ذلك نفي الأصالة لفكريه الأدبية للأمة العربية..؟؟
وأن الحضارة العربية لم تقم أو تتكون إلا بفضل هذه المؤلفات..!! ولكن التشكيك الاستشرافي الذي غرس في عقل هذا الأديب الكبير – يرحمه الله- هو الذي جعله يقرر دعاوي لا يقبلها عقل القارئ الواعي..!!
ومن يقرأ كتبه التي ألفها.. مثل مستقبل الثقافة.. والشعر الجاهلي.. وحديث الأربعاء يخرج بانطباع متشائم.. وهو أن مشكله العقل.. أو أزمه الفك العربي منذ ابتداء ما يسمي بالنهضة العربية الحديثة.. قبل وبعد الحرب العالمية الأولى.. تتمثل في تقليد ما يفرزه الفكر الغربي.. والإيمان به إيماناً أعمى بدعوى الثقافة والمعرفة الإنسانية..!!
فالتأثر أو الاقتباس المعرفي للعقل العربي من الفكر الغربي منذ أن بدأت البعثات الدراسية تذهب للغرب كان منصباً أو منطلقاً من معارف هشه مقلده.. أو من فكر تحريفي مشكك لم تستفد منه الأمة العربية في تاريخها الحديث..!!
فقوله بأن علم البيان والبلاغة العربية يعود الفضل فيهما لترجمة كتاب الخطابة.. والشعر والنثر والمنطق لأرسطو.. هو قول متهافت.. ذلك أن البلاغة والبيان في اللغة العربية ملكه أو موهبة أصيله.. وليست مقتبسه لم يعرفها العرب إلا بعد ترجمة هذه الكتب..!!
كما أن قوله بأن أبرز علماء اللغة العربية والبيان ومن تكلم في البلاغة العربية هم من أصول غير عربية.. وبأن الثقافة العربية وتأثره بمعارف حضارية سابقه.. هو دس استشراقي واضح.. حتى وإن كان ما يقوله به حقيقة تاريخيه.. فإن ذلك لا يقلل من قمة الحضارة العربية.. وإن الفكر العربي هو الأصل في استنباط هذه المعرفة.. وإنما هذه الشبهات من قبيل الغزو الفكري الذي سلط على عقول المثقفين العرب قبل وبعد الحرب العالمية الأولى والثانية..!!
ولكنه (غزو فكري) قد تجسد – مع الأسف- في طروحات وتنظيرات أدباء ومفكرين أو مثقفين من أبناء الأمه العربية..!!
وهذه الظاهر هان دلت على شيء.. فإنما تدل على أن العقل العربي منذ أيام الدكتور طه حسين يدور في حلقه فكريه مفرغه من أي محتوى حضاري خلاق.. يفيد الإنسان العربي في تكوين نهضه (علميه) في الحياة.. أو تأصيل ثقافه أدبيه أو فكريه مبدعه مستمده من شخصيته..!!
فالمستشرقون الذين درس على أيديهم كثير من الأدباء والمفكرين العرب منذ ذلك الوقت.. يحاولون إرجاع الثقافة العربية المعروفة في التاريخ.. ومعطيات الفكر العربي إلى معرفه عالمية سابقة.. حتى الفكر الديني للأمة العربية يحاولون إرجاعه لطقوس كهنوتية.. ومفاهيم وثنيه سابقة.. للتأثير في عقل المتلقي وإشاعة الانحراف الفكري بين شباب الأمة العربية..!!
ومنهج الشك النبتشي والجدل المادي الهيجلي.. منهج (تلمودي) قد طرح موجهها للأهمية منذ عصور قديمة.. ومن المؤسف حقاً أن الحالة النفسي التي يعيشها العالم العربي في الوقت الراهن تجعل لمنهج الشك هذا تأثيراً في العقل العربي.. ولن يتكون هذا العقل عملاقاً.. إلا برفض التقليد الأعمى.. وخلق نهضه (علميه) حديثه.. وإبداع معرفه وثقافة أصيله..!!