المجد و الزيف في الدنيا نقيضان .. كما أن الحق و السيف من أزل شقيقان ..!! – بهذه الكلمات المهموسة و المعنى المعبر عن حقيقة أو ظاهرة اجتماعية تطالع القارئ أول قصيدة في ديوان الشاعر الشاب (عبدالله محمد جبر) الذي صدر مؤخراً عن مطبوعات نادي مكة الأدبي وهو مجموعة قصائد بعنوان (للحضارة ثمن) .. يضم تجارب شعريه تنبئ بمولد شاعر يتمتع بميول و ملكه شعريه .. وإحساس مرهف .. ونظرة جادة للحياة المتوترة بأحداثها و إرهاصاتها..!!
فهو في قصيدة فرس الفارسان شاعر حالم يعيش معاناة أمته العربية بصدق عاطفه .. وإحساس وطني متألم ليعبر عن التمزق النفسي و الضياع الفكري في حياة هذه الأمة .. ويتطلع إلى قائد مثالي له فؤاد صحابي ووجهته شريعة الله. على أن هذا البطل لابد أن يستلهم العصر. أمجاداً وتقنية .. يأتي ليقود العالم العربي بعلم وإيمان .. فالشاعر يبث حزنه على واقع أمته .. وأشجانه لمجيء قائد بطل يحلم به و يناجيه برسوخ عقيده و قوة عارضه تتدفق بركاناً ثائراً..!!
أما القصيدة الوطنية الثانية الملتزمة فقد نظمها بأحد البحور الشعرية ذات الجرس الجميل .. و بأسلوب رمزي أعتبرها من أحسن قصائده وهو يتحدث فيها عن (شيء) لا يؤمن به و يعبر عن رفضه له بأسلوب رمزي .. ويمكن القول بأنها محاوله شعرية جديدة تطبع شعره بميزه عصرية متقدمة لا شذوذ فيها .. و بأسلوب جديد في نظم الشعر المعاصر .. ولعله أستلهم روح الشاعر المجدد المرحوم (مجمد حسن عواد) !!
وبودي لو أن الشاعر أكثر من هذه التجارب الشعرية الجيدة .. وأنصرف عن التقليد و محاكاة الشعراء القدامى في الأسلوب و المعاني !!
فأكثر قصائده في هذا الديوان الذي أتحدت عنه تقريرية تعتمد على الأسلوب التقليدي و أن لم تخل من نفحات ذاتيه تبرز نفسيته المتوثبة و أفكاره الجريئة, ونظرته الناقدة للمفاهيم و القيم في حياتنا المعاصرة !!
وقد كنت أقرأ للشاعر قبل حصولي على نسخة من هذا الديوان ما تنشره له جريدة (الندوة) الملكية من قصائد لفتت نظري و كنت أستشعر ميلاد شاعر جديد واعد .. له شطحات و تهويمات معدودة له لا عليه إذا ما أستغل هذه الحالة النفسية بصقل ميوله و ملكته الشعرية ليستقيم عودة في المستقبل و ليمتد جذوره في أعماق الحياة الإنسانية !!
كما إنني كنت أستشف من شعره نظره تشاؤميه للحياة .. و نغماً حزيناً من كبرياء و ألم و اعتداد بالنفس و إحساس مرهف وهي من المقومات الرومانسية المغلفة بالحزن أنتجت شعراء بارزين في العالم العربي في مطلع القرن الحالي.. كأبي القاسم الشابي, وعبد الحميد الديب شاعر البؤس و الحرمان, و الفيتوري ,, و شاعرنا (محروم) .. و السياب في مطلع حياته الأدبية و نازك الملائكة .. و غيرهم في العالم العربي !
فهؤلاء الشعراء رومانسيون يجمه بينهم الإحساس بالظلم و الاضطهاد من قسوة الحياة.. و يتميزون بنغمه الحزن الواضحة في أشعارهم .. و التشاؤم إلى حد ما في هذه الحياة ..!!
(و الرومانسية)لا تعني محاكاة الطبيعة كما يتوهم بعض النقاد في العصر الحديث لأن محاكاة الطبيعة و التغزل فيها .. و المناداة بجمالها توحي بالتفاؤل و التعلق بالحياة و الانغماس في ملذاتها و التمتع بجمالها ..!! نعود لشاعرنا فنقول .. بأن أسلوبه في أغلب شعره تقليدي. تحتاج بعض أبياته لتقويم عروضي .. كما أنه يستعمل كلمات غير شعريه .. ويحسن به أن يتجاوز هذه المرحلة و يبتدع له أسلوباً تبرز فيه معالمه ..!! و قد يغفر له الوقوع بمثل هذه العيوب لأنه شاعر ناشئ .. ولكنني مع ذلك أنصحه – مخلصاً – بأن لا يتعجل نشر أشعاره قبل أن يثقف نفسه بقراءة أدبيه متأنيه .. و الإطلاع على التجارب الشعرية و الأعمال الأدبية لشعراء المهجر و مدرسة (أبولو) و غيرهم.. كما إنني أنصحه بدراسة الآثار المهمة في النقد الأدبي المعاصر لتتسع مداركه و يستقيم عوده ولا ضير عليه من عدم نشر شعره حالياً .. لأن القارئ في الوقت الحالي أصبح واعياً يدرك الأعمال الشعرية الجيدة من الرديئة !
والقصيدة التي شدت ذهني في ديوان (للحضارة ثمن) فهو يستوحش فيها من تغير معالم حارة أهله في بلده أم القرى بسبب التطور العمراني و يزعجه ذلك .. و يصيبه قلق و خيفه من هذه الحضارة و لكنه لم يلبث أن يتأقلم معها .. وأن كان يرفض كثيراً من مفاهيمها في نفسه !!
والقلق ميزه أو سمه بارزه في شعره .. و أعتقد بأن قلق الشاعر ناتج من تعلقه بتقاليد و عادات بيئية يحن إليها و ينزعج من غيابها عنه .. و اختفائها في مجتمعه ..!! لذلك نجده ينعي على الجيل الجديد تعلقه بقشور الحجارة و تخليه عن أخلاقياته القديمة !!
والقلق و الخوف في نفس الشاعر..إضافة للمقومات التي ذكرتها سابقاً لشعراء (الرومانسية) يلازمان دائماً العقل الباطن للشاعر الأصيل .. ونشوء القلق قد يكون شيء غامض لا يدركه الشاعر نفسه .. ولكنه يعبر عنه في شعره بالهروب من الواقع .. وقد يعبر عنه في بموت (بجعه) أو طائر صغير أو ذبول زهره يانعه .. أو بتغير معالم وطنه !! و ظاهرة الإبداع في إنتاج شعراء (الرومانسية) يرجعها بعض النقاد وهم على صواب فيما أعتقد إلى هذا القلق .. إلى الخوف من مصير الإنسان .. ظاهرة الحياة و الموت .. ! فأبو ماضي في قصيدته لست أدري مثال حي على ذلك .. كما أن أغلب التجارب الشعرية البديعة لشاعرنا الكبير (محمد حسن فقي) هي من وحي هذه الحالة النفسية .. تنطلق من حيرته بظاهرة الحياة و الموت ومصير الإنسان!!
هذه خطرات المحت فيها في هذه المقالة جاءت توضيحاً لموقف قد يستنكره أو يرفضه بعض القراء من أمثال شاعرنا .. ولنعد لديوانه فنقول بأن عليه أن لا يتعجل النشر و أن يحبس قلقه في عقله الباطن لعمل أدبي ممتاز .. و قصائده (رجل و جيل) ..(الهزار و الريال).. (اعترافات الحاقد الضعيف) ..(الشيك الساحر) .. (الشهادات).. و (اندفاعات صيفيه) .. و غيرها .. هي تجارب شعريه تنقصها الإبداعات في الأسلوب المميز الذي يؤثر في نفس المتلقي الواعي .. وإن كانت تنطلق من صحوه ألم .. وكبرياء ندم .. صحوة ألم من إرهاصات الحياة و ضياع أمجاد و أخلاقيات كانت سائده .. و كبرياء ندم على ضياع هذه الأمجاد و الأخلاق و التقاليد الحميدة .. أسمعه أيها القارئ يقول في قصيدته (رجل و جيل) ما يلي:
ماذا حدث يا أبي
الحرف يضلع في لهاتي!!
الجل قد فتكت به
تلك الضباع القاتلات !
أميه .. فكريه
جذبته نحو الترهات!!
يقتات من قشر العلوم
يظنها لب الحياة!!
يشري الشهادة بالنقود
وتلك أم المعضلات!!
من ذا يبيع لنا البطولة
في اقتحام النيران !!
ثم هو يتحسر على ماضي أمه عاشت بأمجاد و بطولات فيقول:
كانوا مشاعل جيلهم
عند الليالي الحالكات !!
لم يكسر الترف القتول
نفوسهم بالتفاهات!!
أو يعرفوا اليأس العقيم
إذا تشبث بالدعاة !!
وهو قصيدة جميلة لولا تكرار المعاني فيها .. و استعمال ألفاظ قلقه و كلمات غير شعريه وباستطاعته الاستغناء عن بعض الأبيات التي جاءت على طريقة الاسترسال إلا أنه وقع في أخطاء عروضيه لا تغتفر حينما أستبدله ببحر المتدارك كقوله .. أو واقف في غمرة الازدحام .. تناديهم أن يلبسوا الاحتشام .. أضعت من رجلك درب الوئام.. نريد أن تسرق مجد الرجام .. فهي مصيبه وكلمه الرجام هذه لعلها غلط مطبعي ..؟؟ فهو لم يوفق في تغيير البحر السابق !!
وقصيدة (المجد السماوي) التي يتغنى الشاعر فيها بأم القرى و يحيى الوافدين إليها تمتاز بنظره روحيه تؤثر في نفس القارئ و أن كان بيت الختام جاء قلقاً لاستعمال جمله (فصل بارد) و ليست شعريه لذلك لا عليه من الاستغناء عن البيت بكامله ..!!
أن القارئ الواعي يستشف تمتع الشاعر الشاب بميول و ملكه شعريه لا بأس بها .. وإذا كان هناك بعض الهنات في وزن الأبيات .. و الضعف في الأسلوب .. وعدم اختيار الكلمات الشعرية فإنني أتوقع له مستقبلاً مرموقاً إذا ثقف نفسه (ونخل) شعره قبل نشره .. ولولا إنني لمست في نفسه (بفتح الفاء) قوة و طموح شعري في قصائد هذا الديوان وفي أشعاره التي نشرت له في جريدة (الندوة) سابقاً لما تحدثت عنه و أبديت نقداً لا انتقادا بأمل أن يكون إنتاجه في المستقبل خالياً من الهنات و العيوب بأتباع أسلوب شعري جديد (لا حديث)تبرز فيه ملامحه و شخصيته و مزاجه السوداوي الذي هو من مقومات الشاعر المبدع في الواقع وأشكره على إهداء ديوانه لي .. وأعده بأنني سأقرأ ديوانه الآخر (أريد عمراً رائعاً) بعد مجيئي من إجازة الصيف ..
وأرجو أن يتقبل توجيهاتي بروح رياضية فما نويت إلا الخير له .. وله تحياتي.