في اعتقادي أن الشعر العربي.. هو الفن الأدبي الوحيد الذي فقده في العقود الأخيرة قدراً كبيراً من مكانته، وضعفه في إبداعه ومعطياته إنما كان بسبب أزمه النقد السائدة في عالمنا العربي..
فالذين بشروا بقصيده النثر بحجه المعاصرة أو غير ذلك من التنظيرات والطروحات الزائفة والخادعة، لم يكن هدفهم في الواقع التجديد في مضمون الشعر العربي وأساليبه.. كما حدث من قبل شعراء المهجر مثل.. وإنما هدفهم -في رأيي- هو تقويض البنيه الشعرية في اللغة العربية.. وإضعاف تأثير الشعر العربي الأصيل في نفس المتلقي..!!
ومع ذلك.. فإن قصيده النثر.. لا يمكن أن تكون بديلاً عن الشعر العمودي الموزون مهما حاول بعض النقاد المحدثين تبريرها وتسليط الأضواء عليها وعلى رموزها.. ولكن الشباب العربي المتأدب قد يكون معذوراً عندما تغريه هذه الأضواء.. وتدفعه إلى التعبير عن فكرته في قصيده النثر التي لا ترتبط بمفهوم الشعر في اللغة العربية.. وهو الوزن أو التفعيلة العروضية؟؟!!
فالهجمة على الشعر العمودي في العقود الأخيرة برفضه والتشكيك في معطياته ومؤثراته هي من أجل إضعاف تذوقه عند المتلقي.. مثل ذلك.. مثل تسليط الأضواء على اللهجات العامية.. والموروثات الشعبية ومفاهيم الدراسات اللسانية الحديثة التي تهدف لإضعاف ارتباط اللغة العربية الفصحى بالتراث..
وقضية انبهار الشباب المتأدب في المغرب العربي وغيره بالمناهج النقدية الحديثة هي قضية أو إشكاليه -كما يقولون- لا تخفي أهدافها وأغراضها عن المتابع للحياة الأدبية في عالمنا العربي..!!
أقول ذلك للفت أنظار الشباب في بلادي.. الذين لديهم اهتمامات أدبيه لئلا ينخدعوا بتلك الأضواء.. أو يندفعوا خلف محاوله تطبيق مفاهيم الدراسات النقدية الحديثة على اللغة العربية.
وهذه اللمحة السريعة عن أزمه النقد للشعر العربي تطرقت إليها بمناسبه القراءة الشعرية للقصائد (المشتار) من مجلة المنهل الرائدة في حياتنا الأدبية.. والصادرة في شهر محرم من العام الهجري الجديد 1411 هـ.
فمن أجمل قصائد المشتار.. قصيده لشاعرنا الرائد السيد/ محمد حسن فقي بعنوان: (سيبقى الشعر) يشتكي فيها من الهجمة على الشعر العربي الأصيل.. ويتحدث فيها على لسان الشعر والفكر عن هذه القضية.. بإبداع أدبي رفيع.. وموهبة شعرية فذه.. يقول فيها:
ورأيت الطريف.. من شامخ القول.. مهيضا.. مهددا بالحتوف ورأيت الخسيس.. من ساقط القول.. وسيع الخطي.. ثمين الشفوف
وهو تصور لواقع معاش مع الأسف وإدراك لتوجه مناهض للإبداع في الشعر العربي الأصيل.
كما تضمن المشتار قصيده جميلة للشاعر الصديق (أحمد سالم باعطب) بعنوان: (لن تراني باكيه..).. ويخيل إلى إنني قد أطلعت على هذه القصيدة في أحد دواوينه الشعرية.. وأعتقد أنها من إبداعاته في عهد الشباب المفعم بالمعاناة العاطفية والوجدانية.. وإلا فهو الآن في مرحلة الشيخوخة والعجز في أن يكون فارس لمخضوب البنات..
وشاعرنا باعطب ملتزم في إبداعه الشعري بالأصالة.. وبالقيم الإنسانية الرفيعة.. ولذلك فإن أغلب تجاربه الشعرية معجبه ومطربه تدل على موهبة شعريه وأصالة إبداعيه شكلاً وموضوعاً..
ولا أخفي إنني قد أعجبه بقصيده للشاعر الشاب (عبد الله بن أحمد الفيفي) لأنها توحي بموهبة شعريه.. وتمرس في الأداء الشعري الجميل.. وهي قصيده عاطفيه بعنوان (الغريق).. وقفت عندها قليلاً وقلت في نفسي.. فعلاً سيبقى الشعر الأصيل على الرغم من محاولات تعويقه..
وعلى الرغم من أني لم أقرأ شعراً آخر لهذا الشاب.. إلا إنني أستشف في قصيدته هذه إشراقه الديباجة الشعرية (لابن زيدون) الشاعر الأندلسي المعروف.. فالبناء اللغوي لهذه القصيدة كان قوياً.. والتخييل فيها متوهج بالمعاني الجميلة التي تتحدث عن العاطفة الإنسانية.. إلا إنني أجد في المطلع كلمه ليست شعريه.. وهي الفعل (شمر).. فالشوق لا يشمر عن ساعديه.. ولكن صاحب الشوق هو الذي يفعل ذلك ولعل الشاعر يستبدل هذه الكلمة.. بأخرى أكثر شاعريه.. وهناك قصيده جميله للشاعر المعروف (إبراهيم السامرائي)..
يصور فيها معاناته في الغربة والاغتراب.. والشوق لعودة الإنسان للإحساس الجميل والقيم الإنسانية الرفيعة.. والأستاذ السامرائي شاعر أقرأ له قليلاً في المجلات.. وأتخيله مرهف الوجدان في شعره..
وأروع ما عبر عنه في هذه القصيدة التي بعنوان (عود إلى عمان) هو ما سكن في أعماق نفسه من ذكريات لتناقضات الحياة. فيقول مناجيا عمان:
مشت لك الهضبات الشم زاهيه
بها تسامت بأعلام وبنيان
ومن تسامت بهم راحوا بما احتجنوا
من المنافع في عز وسلطان
وعد عن ذا وطف في بائس خرب
تلقي به الأهل في انقاض عمان
حسب النقيضين أن يحويهما قدر
قضي باوحش ماكر الجديدان
بخ ..بخ أيها الشاعر الفريد.. كأني بك تدعوني لأقول:
لقد ترنحت الأعطاف وانتفضت
مني عواطف إنسان.. لإنسان
هي الحياة تباريح.. وأعذبها
جراح نفسه قضت في عز أوطان
وقصيده (إغفاءة الشاعر.. وانتباهه) لفقيد الأدب والصحافة المرحوم (عبد القدوس الأنصاري).. مؤسس هذه المجلة الرائدة (مجله المنهل).. لا شك أنها كانت مفاجأة هذا العدد.. وهي تجربه شعريه جميله تنبض بالتخييل وتذكرني بشعر الشاعر المهجري (شفيق المعلوف) (شاعر الطيارة).. وهي من بحر الرمل زي الجرس الموسيقي الجميل.. وتفعيلات هذا البحر تصلح لإبداع الملاحم الشعرية باللغة العربية.. ولقد تجلت في هذه القصيدة روعه الخيال الشعري والتصوير المجنح لإلهام الشاعر وتأثره وتأثيره..
كما أن في المشتار من هذا العدد بعض القصائد والمقطوعات الشعرية التي تأرجحت بين السرد والتقرير.. والاعتيادية في التعبير عن الأفكار والمعاني في الشعر العربي.. ومعذره أن كنت قد غفلت عنها على الرغم من أنها تستحق الإشادة والتقدير.. لضيق المجال والكتابة على عجل.