تخطى إلى المحتوى

أبو القاسم الشابي .. بحث مفصل

    المعاني و المشاعر الإنسانية في الفنون الأدبية لها تأثير في النفس … و الشعر من أقوى الفنون الأدبية تأثيراً و حملها تعبيراً .. لأن الشعر لا يخاطب عقل القارئ بقدر ما يخاطب عاطفته ..

    فإذا كان محاكاة للطبيعة أثار في النفس الإحساس بالفن و الجمال و إن كان وجدانيًا يصور المشاعر و العواطف الجميلة حرك في النفس كوامن الشجن .. و إن كان وطنياً الهب في نفس القارئ شعوره الوطني, و الاعتزاز بأمجاد الأمه .. لذلك كانت الصلة التي تربط بين أي قارئ يتذوق الشعر, وبين أي شاعر أصيل رابطه قويه عميقة الجذور.

    ولقد غني أبو القاسم الشابي شعراً رائعاً في حياته -فأعجبت به بعد و فاته .. ولا أحسب أني أعجبت بشاعر في مطلع حياتي الأدبية يقدر ما أعجبت بهذا الشاعر العظيم على الرغم من البعد الذي كان يفصل بين البلد الذي أعيش فيه. وبين موطن هذا الشاعر.

    فلا أزال أذكر أني كنت أجتهد في البحث عن الكتب, و المجلات الأدبية التي كانت تصدر في بعض الأقطار العربية لعلي أجد فيها أثراً شعرياً لهذا الشاعر, و بعد أن قرأت لأول مره قصيدته المشهورة (النبي المجهول) في أحد المجلات الأدبية .. وكان ذلك إبان أو بعد الحرب العالمية الثانية.

    ولو لم تكن شاعريه أبي القاسم الشابي أصيله و شعره رائعا يستأثر بعواطف القارئ لبقى شعره في صدور البلد الذي يعيش فيه .. ولما أصبح – بحق – رافداً عذباً يمد بحر الأدب العربي الحديث بأجمل التجارب الشعرية المعبرة عن القيم و المعاني الإنسانية النبيلة و الصور و الأخيلة الشعرية الجميلة.

    فالشابي لم يكن كأي شاعر عادي يغني بأشعاره للناس و للمستمعين فتختفي حلاوة أغانيه بعد إن يغني تنطلق من بين شفتيه أو تنشر في الصحف .. بل إن أشعاره خالده مشرقه دائما لا تموت .. لأنها من إلهام إلهه الشعر و معانيها و أطيافها و أخيلتها مستمد من موطن السحر .. و دنيا العبقرية..

    فلو لم يكن أبو القاسم الشابي شاعراً فذا ملهماً لتحطمت قيثارته فوق رفاته.. و لكن شعره كما كانت روحه – رحمه الله – أقوى من الموت ..بقى خالداً تقرأه الأجيال الحاضرة .. و ستقرأه الأجيال القادمة و تتأثر به.

    ولست في هذه الكلمة بصدد إبراز سمو شاعريته, و تقييم أثاره الأدبية, و مقارنتها بالإثار الأدبية لعباقرة الشعر العربي الذين أغنوا بإنتاجهم الحياة الأدبية في العالم العربي .. و لكن في كلمتي هذه سأتناول جانباً مشرقاً من الجوانب المشرقة في شعره الخالد .. إلا وهو و طنيه الشاعر. وأشعاره الوطنية.

    والحق الذي لا مراء فيه إن أبا القاسم الشابي قد خلف شعر وطنياً تزهو به هامة الأدب العربي الحديث .. و يحق لأبناء تونس الخضراء إن يفخروا و يفاخروا به .. و إن يطلقوا عليه شاعر الحرية كما أني لن أتعرض لدراسة و تقييم تجاربه الشعرية المعروفة لدى القارئ في العالم العربي و تحليل شخصيته من خلال هذه التجارب .. أو الحكم عليه بأنه كان منتمياً لهذا لمذهب الأدبي أو ذاك .. و القول بأن أعماله الأدبية ملتزمة هادفه إن أنها تتبع من قوقعه الذات و أجواء الرومانسية الحالمة.

    وإذا كان محترفو النقد الأدبي الحديث قد أصبحوا يحملون بعنف على إنتاج الشعراء ذوي الميول الرومانسية و عبادة الذات التي ظهرت في إنتاج الكثير من الشعراء بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. ومناداتهم بضرورة الالتزام في الأدب .. فإنني أحسب إن من عظمه هذا الشاعر أنه قد خلق تجارب شعريه يصح اعتبارها من الناحية الموضوعية. ومن ناحية معطياتها الفنية و تأثيرها ملتزمة إلى أبعد حدود الالتزام .. فشعره الوطني ملتزم بلا شك. لأنه يصور أمال و آلام شعب بأكمله., بل شعوب عربيه بأسرها, و يترجم أحلام هذه الشعوب في الخلاص من قيود عدوها الاستعمار الذي يتحكم في مصيرها. كما أن أغلب شعره هادف اجتماعيا .. لأنه فيه ثوره على النظام الاجتماعي, و التقاليد الباليه و المجتمع الأعمى و فيه أيضاً دعوه إلى الخير و الحب و السلام .. وهذا لعمري أساس نظريه الالتزام, وأن ضيقت مدلوله بعض الآراء السياسية المتطرفة.

    فالذي يقرأ إنتاجه الشعري في ديوانه المطبوع (مختارات من أغاني الحياة) الذي قام بنشره الأستاذ أبو القاسم محمد كرو .. يجد أن التجارب الشعرية لهذا الشاعر الملهم تتميز بجو أو نزعه رومانسية حزينة .. و بأفكار صوفيه حالمة .. و بأن هذا الشاعر كان يعيش في بيئة نفسيه مكللة بالكآبة .. إلا أن هذه التجارب – مع ذلك – تحتوي على معاني و مشاعر إنسانيه نبيله و صور فنيه .. وهذه الصور و تلك المعاني تؤثر بلا شك في نفس القارئ لأنها تدعوه إلى اغتنامه الخير و المحبة .. والتغني بالجمال و المثل الإنسانية السامية.

    فالشابي مثلاً في قصيدته (صلوات في هيكل الحب) وهي من التجارب الشعرية التي تتجلى فيها النزعة الرومانسية يرسم للقارئ لوحة فنيه ساحره يتجسد فيها طل شيء جميل, و تتمثل فيها أفاق رائعة للجمال للمعنوي المقدس .. وهذه الصور أو الأخيلة تؤثر في نفس القارئ و تربي فيه محبة الجمال و تقديس صانعه.

    و إذا كان لابد من مثال على ذلك فنسمعه يقول:

    عذبه أنت كالطفولة كالأحلام

    كاللحن كالصبح الجديد

    كالسماء الضحوك كالليلة القمراء

    كالورد كابتسام الوليد

    يا لها من طهارة تبعث التقديس, في مهجه الشقي العنيد أي شيء تراك ..؟؟ هل أنت فينيس تهادت بين الوري من جديد أم ملاك الفردوس قد جاء إلى الأرض يحيى روح السلام العهيد فأي شيء أحب إلى النفس البشرية من السلام و الطفولة, و القمر و الورد و اللحن و الصباح الجديد ؟؟ وأي دعوه لتقديس الخالق, واعتناق عقيده التوحيد أجمل من قوله في هذه القصيدة :

    يا ابنة النور إنني أنا وحدي

    من رأي فيك روعه المعبود ؟؟

    فدعيني أعيش في ظلك العذب

    وفي قرب حسنك المعبود ؟؟

    عيشه للجمال و الفن و الإلهام

    والطهر و السنى و السجود ؟؟

    نعم أن الشابي بهذه المعاني و الألفاظ الموسيقية العذبة يحمل القارئ على أرجوحة مقدسه ليعيش معه لحظات في عالم الجمال .. و هذا في رأيي منتهى الالتزام .. و الأمثلة على ذلك كثيره في ديوانه المطبوع (من أغاني الحياة).

    وكما حمل الشابي شبابه وغنى للحياة .. فقد تغنى بوطنه و أسمعنا من حبه له, وعن إخلاصه لشعبه شعراً وطنياً رائعاً يعبر عن أشواق روحه و لوعة قلبه إلى تحرر هذا الشعب و انطلاقه و تقدمه.

    شعراً قوياً يهز مشاعر القارئ و يثير سخطه على كل قيد اجتماعي متزمت ليقف حجر عثره في سبيل تقدمه, و على كل تحكم و استعباد يحد من حريته.

    فإذا ذكر شعراء الحرية في العالم أمثال, لوركا و با يلو نيرودا. و اراجون و غيرهم من الشعراء المكافحين في سبيل حرية وطنهم فلا أعتقد أن أبا القاسم الشابي يقل عنهم و طنيه و أعمالاً أدبيه تتغنى بالحرية .. و توحى بالعزة و القومية ..؟؟

    فهو لم ينس أن يتغنى بحب بلاده رغم ظروف الشقاء التي كانت تك تنف حياته .. فلا أروع و لا أجمل من مناجاته لتونس الخضراء ..؟؟ بقوله :

    إنا يا تونس الجميلة في لج

    الهوى قد سبحت أي سباحه

    شرعتي حبك العميق. وأني

    قد تذوقت مره و قراحه

    لا أبالي .. وإن أريقت دمائي

    فدماء العشاق دوماً مباحه

    هنا نراه يعبر عن أقدس العواطف .. وهي محبته لوطنه .. وإذا كان تألم من واقع شعبه في مطلع هذه القصيدة و شكي من سكوته على إخماد كي صوت يدعو للإصلاح شأن كل شاعر مرهف الإحساس, فما كان ذلك شجباً أو عتباً بقدر ما كان حب لشعبه .. و دعوه له للتخلص من قيود ماضيه و جمود حاضره .. و أملاً في أن يسترد هذا الشعب يوماً حريته المسلوبة لأنه يقول في ختام هذه القصيدة :

    أن ذا عصر ظلمه غير أني

    من وراء الظلام شمت صباحه

    ضيع الدهر مجد قومي و لكن

    سترد الحياة يوماً وشاحه

    والشابي ما كان محباً لوطنه فحسب .. بل كان صاحب رسالة – كما أعتقد – في إيقاظ الشعور الوطني لدى شعبه, و محاربه الظلم الاجتماعي و التعسف السياسي .. و إخلاصه و تحمسه لأداء هذه الرسالة كان على حساب أعصابه..؟؟

    فالذي يقرأ أعماله الأدبية يجد أن هذا الشاعر العظيم لم تتعذب روحه مما كان يعانيه من شقاء و ألم و حرمان فحسب .. وإنما كانت تتعذب أيضاً لاستسلام شعبه – أثناء حياته – للتقاليد الباليه و السكوت على الظلم الاجتماعي و الاستبداد السياسي ..؟؟

    ونتيجة هذا الشعور نراه يشكو متألماً من واقع شعبه داعياً إياه بصدق و إخلاص إلى التخلص من الأفكار القديمة .. و نبذ الخلافات, وإنكار الامتيازات التي كانت مستحكمه حينذاك و دليلي على أنه صاحب رسالة قصيدته (النبي المجهول) التي تعتبر في رأيي من أروع الأعمال الأدبية الهادفة و من أجمل التجارب الشعرية الفريدة في نوعها في ديوان الشعر العربي الحديث ..

    فهو في هذه القصيدة يقول :

    أيها الشعب ليتني كنت حطاباً

    فأهوى على الجذوع بفاسي

    ليتني كنت كالسيول إذا سالت

    تهد الرموس رمساً برمس

    ليتني كنت كالرياح فأطوى

    كا من يخنق الزهور بنحس

    ليت لي قوة الأعاصير يا شعبي

    فألقى إليك ثوره نفسي

    ليت لي قوة العواصف أن ضجت

    فأدعوك للحياة بنبس؟؟ إلخ

    فمعطيات هذه القصيدة الخالدة يحوي بأن هذا الشاعر الملهم كان صاحب رسالة و طنية تعذب من أجلها كما تعذب الناصري من جحود و آثام شعبه؟؟

    كما أنها تصور معاناة شعريه قاسية مر بها الشاعر في حياته فأوحت إليه بأن يلجأ – يأسه من إصلاح شعبه – إلى الغابات ليتلو على ما يضم الغاب من طيور و زهور و صباح ود يجور أناشيده, و يبثها أشواق روحه, و يشكو إليها أشجان قلبه, وصعوبة تحقق أحلامه و أمانيه الوطنية .. و يدفن نفسه – كما يقول- في صمت الغابات متأملاً يسأل الكون في خشوع و همس عن سر الوجود, وعن صميم الحياه ..؟؟

    فالعزلة الغابية. هذه كانت بمثابة خلوه تأمليه للتفكير في مشكلات شعب بأكمله, وربما شعوب عربية بأسرها .. و حيث كان هذا الشاعر مخلصاً في أحاسيسه الوطنية, ومشاعره تجاه شعبه .. فقد فجرت هذه التجربة براكين الثورة في أعماقه وألهمته قصيدته الخالدة (إرادة الحياة) التي يقول فيها :

    إذا الشعب يوماً أراد الحياة

    فلابد أن يستجيب القدر

    ولابد لليل أن .. ينجلي

    ولابد للقيد أن ينكسر

    كذلك قالي لي الكائنات

    وحدثني صوتها المستمر

    إذا ما طمحت إلى غاية

    لبست المنى, و خلعت الحذر

    إلى أن يقول :

    و رفرف روح غريب الجمال

    بأجنحة من ضياء القمر

    و أعلن في الكون أن الطموح

    حبيب الحياة و روح الظفر

    إذا ما طمحت للحياة النفوس

    فلابد أن يستجيب القدر ..؟؟

    فهذه التجربة الشعرية قد ولدت بعد التأمل العميق .. و صدق الرؤيا فيها واضحة في تصور الحقيقة .. وهي إيمان الشاعر بقدرة الشعوب على استرجاع حقوقها .. و الشاعر في هذه القصيدة قد بلغ قمة الإبداع الفني, وقوه الأداء .. كما تجلت مقدرته الشعرية الفائقة في إبداع قصيدته نشيد الجيار (أو هكذا غنى بروه شيوس) ..؟؟

    ويقيني أن الشاعر في نشيده الأخير لم يكن يتحدث عن نفسه بقدر ما كان يتحدث عن مستقبل شعبه .. ودليلي على ذلك أنه برغم مرضه العضال .. كان يصرخ في سمع الوجود قائلاً :

    سأعيش رغم الداء و الأعداء

    كالنسر فوق القمة الشماء(صورة)

    ارنو إلى الشمس المضيئة هازئاً

    بالسحب و الأمطار و الأنواء

    فالشاعر الملهم – في اعتقادي – مهما تحدث عن نفسه فلابد أن يكون في عقله الباطن إحساس خفي بما يشعر به أفراد مجتمعه من ألم و أمل .. بل ألم وأمل الإنسانية بأسرها .. و من أجل ذلك كانت أعمال الشعراء الملهمين الأدبية خالدة, لأنها تعبر عن أماني و أحلام المجتمع الذي يعيشون فيه ..؟؟

    ثم أن وطنية الشابي لم تكن قاصرة على دعوة بني قومة إلى التحرر من أغلال التقاليد الاجتماعية البالية .. وعلى إيقاظ الوعي الوطني بينهم, بل أن له شعراً وطنياً يدعو إلى الثورة و التمرد على الاستعمار الأجنبي البغيض و أعوانه حينما كان مسيطراً على بلاده.. و من أقوى و أوضح هذه القصائد, الثورية قوله يخاطب الشعب :

    خلقت طليقاً كطيف النسيم

    وحراً كنور الضحى في سماه

    تغرد كالطير أين اندفعت

    وتشد و بما شاء وحي الإله

    كذا صاغك الله يا إبن الوجود

    وألقتك في الكون هذي الحياة

    فمالك ترضي بذل القيود

    وتحنى لمن كبلوك .. الحياة ؟؟

    إلا أنهض و سر في سبيل الحياة

    فمن نام لم تنتظره .. الحياة ؟؟

    ومن أشعاره الوطنية التي كان يكافح بها الاستعمار الأجنبي و الاستبداد السياسي قوله مخاطباً (طغاة العالم) و هو يعني بطبيعة الحال الطغاة المستبدين بمقدرات شعبه :

    إلا أيها الظالم المستبد

    حبيب الفناء عدو الحياة

    سخرت بأناة شعب ضعيف

    وكفك مخضوبة من دماه

    ثم يوجه الإنذار إليهم قائلاً :

    تأمل .. هنالك أني حصدت

    رؤوس الورى و زهور الأمل

    ورويت بالدم قلب التراب

    وأشربته الدمع حتى ثمل

    سيجرفك السيل سيل الدماء

    ويأكلك العاصف .. المشتعل ؟؟

    ولكن ما حدث ..؟؟

    حدث ما كان يتوقعه .. ففي صباح يوم جميل, وبعد أن غيب الثرى جثمان هذا الشاعر العظيم تحقق ما تنبأ به فقد جرف السيل الثوري جيوش الاستعمار عن بلده (تونس الخضراء) و حطم شعبه قيود الظلم و الاستبداد .. وأصبح أبناء تونس يرددون مع روحه و أرواح شهداء الحرية التي تطل عليهم من شاطئ الأبدية :

    اسكتي يا جراح و أهدأي يا شجون

    مات عهد النواح و زمان .. الجنون

    وأطل .. الصباح من وراء القرون

    وبعد .. أن خير ما أختتم به هذه الكلمة هو ما قاله الأستاذ أبو القاسم محمد كرو الذي كان له الفضل بإتاحة الفرصة لأبناء الأقطار العربية في قراءة الأعمال الأدبية لهذا الشاعر العظيم بأن أقول = إنني باسم جميع الأدباء العرب أهيب بشقيق الشاعر أن ينشر جميع الآثار الأدبية لأخيه لأنه بذلك يحقق أمنيه طالما تمناها أدباء العالم العربي. و تطلع إليها قراءة اللغة العربية.