تخطى إلى المحتوى

توفيق الحكيم بين المعقول و اللامعقول

    توفيق الحكيم الذي تحدثت عنه كثيراً وسائل الأعلام العربية .. و الغربية بعد وفاته .. كان له الريادة في نقل منهج مسرح اللامعقول إلى اللغة العربية .. لأن ثقافته فرنسية. وإعلام أو رواد مسرحيات اللامعقول أغلبهم فرنسيون ..!! ولا شك بأنه قد أستوعب هذا المنهج و نجح في تقليده و محاكاته في بعض المسرحيات التي كتبها في الستينات .. و أبرزها يا طالع الشجرة!!

    والنقاد الذين تناولوا إثارة الأدبية .. يرون بأنه قد أبدع في الفنون المسرحية .. وكان له شهرة عالمية في بعض رواياته المسرحية .. مثل مسرحية (شهر زاد) و جمالون .. والسلطان الجائر .. ولكنه في القصة.. أو الرواية لم يكن له ذلك البريق الإبداعي الذي حققه في مجال المسرح ..!!

    وأول عمل قرأته له .. أثناء الحرب العالمية الثانية في شبابي .. هو قصته العاطفية الجميلة (الرباط المقدس) .. الذي قيل بأنه قد أقتبس موضوعها من قصة فرنسية مشهورة ..!! ولكنه أشتهر في الغرب أكثر بروايته (عودة الروح) ويوميات نائب في الأرياف .. وعصفور من الشرق ..!! و الذين كتبوا عنه يرون بأن إبداع الحكيم كان في مسرحياته التي أقتبسها من التراث الشرقي والأساطير .. لأنها أعمال أدبية أصيلة برزت فيها موهبته وكرسته أديباً عالمياً .. ولفتت إليه الأنظار في العالم العربي في الخمسينات.!!

    وليس من شك في أن توفيق الحكيم يعتبر من أبرز الكتاب العرب .. ولكنه في رأيي يبرز كاتباً ومفكراً مؤثراً ومتأثراً بأعماله الأدبية في مجال الفكر (كالتعادلية) وتحت شمس الفكر .. وفن الأدب .. وأغلب مقالاته التي يستشف منها المتلقي رؤيته الفكرية في إشكاليات الحياة ..!! و هي أعمال فكرية تدل على عمق ثقافي .. وعبقرية ذهنية مؤثره ..!! فالتعادلية في عصارة فكره .. ولكن معطياتها الفلسفية حذرة مترددة بين التجريد العقلي .. والمفاهيم السائدة في عصره !! وآراؤه وأفكاره موزعة في مقالات كثيرة تميل للعلمانية .. والنظرة المتشككة في معطيات العقل الإنساني .. والغيبيات ..!!

    ومن يريد أن يقرأ تقييماً مدروساً بعناية وعمق .. عن رؤيته الفكرية فعليه مطالعة ما كتبته عنه الأدبية السعودية .. الأخت سهيلة زين العابدين حماد ..!!

    وإذا كان هناك من يعتقد .. بأن توفيق الحكيم في كتابه (عودة الوعي) قد أفرغ أمجاده الأدبية من محتواها المؤثر .. أي معطياتها الفكرية والأدبية .. فإني أحسبه أن ذلك حكم عاطفي .. ربما أملته نزعة حزبية ليست واعية .. لأنه أنتقد فيه عهد الدكتاتورية الناصرية .. وأحسب بأنه لم ينتقد ذلك العهد بدوافع شخصية لأنه لم يتأثر شخصياً كغيره من الأدباء بجبروت وعنت ذلك العهد .. ولكنه أنتقده لأنه كان حكماً يتعارض مع القيم الأخلاقية .. والحرية الفردية .. وحقوق الإنسان ..!! بصرف النظر عن النوايا الداخلية التي دفعته لانتقاده ..!!

    غير أن الاتجاه الفكري الذي يحق لنا القول بأنه أساء إلى مركزه الأدبي اتفاقية (كامب ديفيد) على اعتبار أنها دليل وعي .. ورجوع للعقلانية ..!!

    وكنت قد ذكرت في مقالة سابقة نشرت في (جريدة المدينة المنورة) منذ أعوام عندما صدر كتابه (عودة الوعي) .. وأبدى في مقابلاته الصحفية تعاطفاً مع المبادرة (الساداتية) .. بأن الحكيم .. ربما كان بتأييده لهذه المعاهدة يريد (تملق) الصهيونية العالمية للفوز بجائزة (نوبل) لعلمه بمدى سيطرة اليهود عليها ..!

    ومهما كان الدافع الذي أوحى إليه بالتعاطف مع المبادرة فإن ذلك منتهى السقوط في خيانة الضمير الحر .. و الدفاع عن الحق الذي يوحى به الضمير ..!!

    وأعتقد بأن لترديه وسقطته في هذا العفن التفكيري .. ما يوحى بأن هناك علاقة نفسية داخلية .. أو ارتباط عقلي باطني بين سقطته التاريخية هذه ورؤيته الفكرية العلمانية التي أشرت إليها سابقاً .. و قد ينكشف سرها المغلق للباحث .. بصداقته المعروفة (لأبا ايبان) وزیر خارجيه (إسرائيل) ..!!

    أعادة كتابة التاريخ ..!!

    جاء في مقالة أستاذنا الكبير محمد حسين زيدان المنشورة في الملحق الأدبي لجريدة (المدينة المنورة) الأولى .. بأن المؤرخين قد عابوا على الخليفة الأموي معاوية ابن أبي سفيان .. يوم كان في المدينة قادما من الشام .. وهو صاحب السلطان .. عابوا عليه مجلس الطرب يعيش فيه عبدالله بن جعفر بن أبي طالب .. يجمع المغنين وآلات الطرب كأنما هذا الطالبي ما أراد اللهو .. وإنما أراد أن ينجو من الظنون .. وسمع معاوية المعابة .. فذهب هو و عمرو بن العاص رضي الله عنهما إلى مجلس الطالبي إبن عمهم .. فإذا عبدالله بن جعفر يرفع آلات الطرب احتراما لزائريه .. فقال له معاوية أعد ما كنت فيه حتى إذا علا الطرب أهتز معاوية طرباً .. فقال له عمرو جئت تنهاه فإذا أنت تهتز .. فقال معاوية دعني فإن الكريم طروب ..!! وهي رواية .. لا أحسب أنها غير رواية .. مختلفة .. دونت في التاريخ لتشويه سمعه .. لا لتشجيع من يحب اللهو والطرب ..!! وأكثر الظن لدي أن القصد منها إبداء سماحة هذا .. وكشف مباذل ذاك كذباً ..!! فكيف يجوز على العقل تصديق أن يكون أحد كتبة الوحي لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم .. ميالاً للهو والطرب ..؟؟ أو أن يقيم الطالب عبدالله بن جعفر رضي الله عنه في مدينة الرسول .. وقرب عهد (بمجده و نور هديه .. أن يقيم مجلساً للهو والطرب في ذلك الوقت ..؟؟

    فليس من شك .. أعني تاريخ الدولتين الأموية .. والعباسية حافل بروايات شعوبية لا يصدقها العقل .. وما يروى فيه من مبالغات في الأحداث نتيجة الأهواء السياسية .. والتوجهات المذهبية البغيضة التي شوهت !! تاريخ هاتين الدولتين .. قد يكون أكثره مختلقاً .. يوحي بالشك ..!!

    فالكذب في التاريخ حقيقة ملموسة ..

    ومقولة وما افه الأخبار إلا رواتها .. المأثورة في كل زمان .. وهي قمة البيان تؤيد ما نقول به .. وقد كتب الكثيرون مطالبين بإعادة كتابة هذا التاريخ .. أي تاريخ ما بعد السيرة النبوية .. وتاريخ الخلفاء الراشدين .. لنخله وغربلته من تلك الروايات الشعوبية والمبالغات في الأحداث التي توحي للقارئ الناشئ بانطباع مشوه .. تطغى على الأعمال المجيدة لهاتين الدولتين !!

    ولذلك فإنني أتمنى على أستاذنا الكبير محمد حسين زيدان .. وهو حجه بمعرفته الجيدة للتاريخ .. ومعرفه التيارات المذهبية والفكرية الباطنية التي عاصرت تاريخ هاتين الدولتين أن يكون داعية لإعادة كتابة التاريخ .. من قبل أساتذة الجامعات .. والمفكرين العرب .. والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .. وله تحياتي و تقديري!!